في زمنٍ تتقاطع فيه الشعارات، وتُستبدل فيه القيم بثقافات دخيلة، تبقى بعض الكلمات كأنها نُقشت على جدار الزمن، لا تشيخ ولا تذبل، لأنها خرجت من فم نبيٍّ لا ينطق عن الهوى من بين هذه الكلمات، تقف وصية “استوصوا بالنساء خيراً” كجوهرة ثمينة، ومبدأ أخلاقيّ خالد، ودعوة مفتوحة نحو مجتمع أكثر عدلاً ورحمة. قالها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وهو يودّع أمته، ويختصر رسالته في جمل تحمل أثقل المعاني لم تكن وصية عابرة، بل جاءت في لحظة وداع عظيمة، وكأنها آخر أمل في إصلاح ما قد يفسده الزمن هي ليست مجرد كلمات، بل مسؤولية، ومقياس لصدق الإيمان، واختبار دائم لإنسانيتنا.
الإسلام لم يُعطِ المرأة حقوقها فقط، بل كرمها تكريماً يفوق التوقعات، فجعل لها نصيبًا في الميراث، وحقًا في التعليم، ورأياً في الحياة، ومكانة في المجتمع جعل الجنة تحت قدميها حين تكون أمًا، وأوجب الإحسان إليها حين تكون زوجة، وأوصى بالعدل لها حين تكون ابنة أو أختًا حين نُوصى بالنساء، فذلك لأن المرأة ليست “نصف المجتمع” كما يُقال، بل هي قلبه النابض، وروحه الدافئة، وركنه الذي إن صلح صلح البنيان كله هي الأم التي تربي الأجيال، والزوجة التي تُؤسس البيت، والابنة التي تُضيء المستقبل فكيف لا يُوصى بها خيرًا، وهي من تبدأ منها الحياة، ومنها تُصنع الحكايات؟ ولأنها تحمل هذا الثقل الوجودي، جاءت الوصية بالخير إليها شاملة: في الكلام، في التعامل، في التقدير، في الفهم، وفي العدل.
لكن بين النصّ والتطبيق، فجوة واسعة تؤلم القلب. كم من امرأة تُهان داخل بيتها؟ كم من فتاة تُحرم من التعليم؟ كم من زوجة تُهمَّش مشاعرها وتُحمَّل ما لا طاقة لها به؟ كم من أم تُقابل بالجحود، بدلًا من البر؟ نقرأ الوصية ونحفظها، لكن لا نُمارسها. نُردّدها، دون أن نُترجمها إلى سلوك. والحقيقة المؤلمة أن كثيرًا من النساء اليوم لا يطلبن امتيازًا، بل فقط يُطالبن بتفعيل هذه الوصية النبوية، بأن يُعاملن بما أوصى به من هو أرحم البشر.
لا تُقاس حضارة الأمم بكمّ أبنيتها ولا بتطور تقنياتها، بل تُقاس بمدى احترامها للإنسان، وبالخصوص للمرأة. فكل حضارة عظيمة بدأت من مكانة أعطيت للمرأة، وكل مجتمع انهار، كان أول ما سقط فيه احترامه للأنثى. “استوصوا بالنساء خيرًا” ليست فقط نصيحة، بل معيار يقيس رُقيّك الأخلاقي، وإنسانيتك الخفية. فإن أردت أن تعرف حجم التحضر في بيت، أو مدرسة، أو مؤسسة، أو وطن، فانظر إلى وضع النساء فيه.
إنّ وصية رسول الله بالنساء ليست وصية تاريخية تُذكر في الخطب، بل مسؤولية متجددة، تبدأ من طريقة تفكيرنا، وتظهر في سلوكنا اليوميّ، وتُبنى عليها القوانين والقرارات والتربية. لنُحييها في أنفسنا قبل أن نطلب من الآخرين إحيائها، لنغرسها في بيوتنا، في أجيالنا، في ضمائرنا ولنتذكّر دائمًا: الوصية لا تموت… لكنها تنتظر من يُنقذها من الغياب .
وحيد جلال الساحلي